فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتنوين {شريعة} للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي.
والشريعة: الدين والملة المتَّبعة. مشتقة من الشرع وهو: جَعل طريق للسير. وسمي النهج شَرعًا تسميةً بالمصدر.
وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك. قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهًا بشريعة الماء قلتُ: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير.
و{الأمر}: الشأن. وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى. قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52]. فتكون {مِن} تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفًا {وآتيناهم بينات من الأمر} [الجاثية: 17] لأن إضافة {شريعة} إلى {الأمر} تمنع من ذلك.
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغًا عظيمًا إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى. وأنها شريعة عظيمة. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها.
ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله: {فاتّبعها} أي دُم على اتباعها. فالأمر لطلب الدوام مثل {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].
وبين قوله: {فاتبعها} وقوله: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر.
و{الذين لا يعلمون} هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه} [الجاثية: 23].
والأهواء: جمع هو ى. وهو المحبة والميل.
والمعنى: أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه: إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14].
وفيه أيضًا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون.
وعن ابن عباس (أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه) قال البغوي: كانوا يقولون له: ارجع إلى دين ابائك فإنهم أفضل منك.
وجملة {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا} تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون. ويتضمن تعليلَ الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئًا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه.
والإغناء: جعل الغير غنيًا. أي غير محتاج. فالاثم المهدد من قدير غير غنيّ عن الذي يعاقبه ولوحماه من هو كفء لمهدده أوأقدر منه لأغناه عنه وضُمّن فعل الإغناء معنى الدفع فعدّي بـ (عن).
وانتصب {شيئًا} على المفعول المطلق. و{من الله} صفة لـ: {شيئًا} و{مِن} بمعنى بَدل. أي لن يُغنُوا عنك بدلًا من عذاب الله. أي قليلًا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف. وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا} في ال عمران (10).
وعُطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو {وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض} أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم.
وذُيل ذلك بقوله: {والله ولي المتقين} وهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم الله وليُّه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}.
إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون. فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئةِ لأغراضها تنبيهًا لما في طيها من عواصمَ عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف (35) {بلاغ} وقوله في سورة الأنبياء (105. 106) {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغًا لقوممٍ عابدين} وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافًا أعيد بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريضُ بتحميق الذين أعرضوا عنه. وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفًا {هذا هدىً والذين كفروا بآيات ربّهم لهم عذابٌ من رجزٍ أليم} [الجاثية: 11]. وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضًا بأنهم لم يَحْظَواْ بهذه البصائر. وكلا الاحتمالين رشيق. وكل بأن يكون مقصودًا حقيق.
و: جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها. شبهت ببصر العين. وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى: {أدْعوإلى الله على بصيرةٍ أنا ومَن اتّبعني} في سورة يوسف (108).
وقال: {قال لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا ربّ السماوات والأرض بصائر} في سورة الإسراء (102) وقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} في سورة القصص (43).
ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر.
وجمع البصائر: إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله: {للناس} لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكَون صاحببِ كل بصيرة جزئيًا مشخصًا فناسب أن تُورد جمعًا. فالبصيرة: الحاسَّة من الحواس الباطنة. وهذا بخلاف إفراد {هدى ورحمة} لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى: {هدى للناس} [ال عمران: 4] وقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107].
وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود.
وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفرادًا وجَماعاتتٍ في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم. وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي.
وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحَرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة.
وجُعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.
وذكر لفظ (قوم) للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.
والإيقان: العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه.
وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}.
هذه السورة مكية. قال ابن عطية: بلا خلاف. وذكر المأو ردي: إلا {قل للذين آمنوا يغفروا} الآية. فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب.
قال ابن عباس. وقتادة. وقال النحاس. والمهدوي. عن ابن عباس: نزلت في عمر: شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة. فأراد أن يبطش به. فنزلت.
ومناسبة أولها لاخر ما قبلها في غاية الوضوح.
قال: {فإنما يسرناه بلسانك} وقال: {حم تنزيل الكتاب}. وتقدم الكلام على {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} أول الزمر.
وقال أبو عبد الله الرازي: وقوله: {العزيز الحكيم}. يجوز جعله صفة لله. فيكون ذلك حقيقة؛ {وإن جعلناه} صفة للكتاب. كان ذلك مجازًا؛ والحقيقة أولى من المجاز. مع أن زيادة القرب توجب الرجحان. انتهى.
وهذا الذي ردّد في قوله: {وإن جعلناه} صفة للكتاب لا يجوز.
لوكان صفة للكتاب لو ليه. فكان يكون التركيب: تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله. لأن من الله. إما أن يكون متعلقًا بتنزيل. وتنزيل خبر لحم. أولمبتدأ محذوف. فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف. لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل؛ أو في موضع الخبر. وتنزيل مبتدأ. فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضًا. لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل. والتركيب الصحيح في نحوهذا أن يلي الصفة موصوفها.
{إن في السموات والأرض}. احتمل أن يريد: في خلق السموات. كقوله: {وفي خلقكم}. والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق. بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم. أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره. من تسخير وتنوير وغيرهما. {لآيات}: لم يأت بالآيات مفصلة. بل أتى بها مجملة. إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع.
وجعلها {للمؤمنين}. إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق.
{وما يبث من دابة}. أي في غير جنسكم. وهو معطوف على: {خلقكم}.
ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض. أجاز في {وما يبث} أن يكون معطوفًا على الضمير {وفي خلقكم}. وهو مذهب الكوفيين. ويونس. والأخفش؛ وهو الصحيح. واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين.
وقال الزمخشري: يقبح العطف عليه. وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين. قال: وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد. انتهى.
وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام. وقال: {لقوم يوقنون}: وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين.
{واختلاف الليل والنهار}: تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور: آيات. جمعًا بالرفع فيهما؛ والأعمش. والجحدري. وحمزة. والكسائي. ويعقوب: بالنصب فيهما؛ وزيد بن علي؛ برفعهما على التوحيد.
وقرأ أبي. وعبد الله: لآيات فيهما. كالأولى.
فأما: {آيات لقوم يعقلون} رفعًا ونصبًا. فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش. ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو. وهي مسألة فيها أربعة مذاهب. ذكرناها في (كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل).
فأما ما يخص هذه الآية. فمن نصب آيات بالواو عطفت. واختلاف على المجرور بفي قبله وهو: {وفي خلقكم وما يبث}. وعطف آيات على آيات. ومن رفع فكذلك. والعاملان أولاهما إن وفي. وثانيهما الابتداء وفي.
وقال الزمخشري: أقيمت الواو مقامهما. فعملت الجر. {واختلاف الليل والنهار} والنصب في {آيات} وإذا رفعت والعاملان الابتداء. وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح. لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش. أضمر حرف الجر فقدر.
وفي اختلاف. فالعمل للحرف مضمرًا. ونابت الواومناب عامل واحد؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله: وفي اختلاف. مصرحًا وحسن حذف في تقدمها في قوله: {وفي خلقكم}؛ وخرج أيضًا النصب في {آيات} على التوكيد لآيات المتقدمة. ولاضمار حرف في وقرئ {واختلاف} بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. أي هي آيات ولاضمار حرف أيضًا.
وقرأ: {واختلاف الليل والنهار آية} بالرفع في اختلاف. وفي {آية} موحدة؛ وكذلك {وما يبث من دابة}.
وقرأ زيد بن علي. وطلحة. وعيسى: {وتصريف الرياح}.
وقال الزمخشري: والمعنى أن المنصفين من العباد. إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح. علموا أنها مصنوعة. وأنه لابد لها من صانع. فآمنوا بالله وأقروا.
فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة. في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان. ازدادوا إيمانًا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس.
فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت. كاختلاف الليل والنهار. ونزول الأمطار. وحياة الأرض بها بعد موتها. وتصريف الرياح جنوبًا وشمالًا وقبو لا ودبورًا. عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم.
وقال أبو عبد الله الرازي: ذكر في البقرة ثمانية دلائل. وهنا ستة؛ لم يذكر الفلك والسحاب. والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة. فذكر الرياح؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحدًا. وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة: يؤمنون. يوقنون. يعقلون.
قال: وأظن سبب هذا الترتيب: {إن كنتم مؤمنين} فافهموا هذه الدلائل؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين. فلا أقل أن تكونوا من العاقلين. فاجتهدوا.
وقال هناك: {إن في خلق السموات} وهنا: {في السموات}. فدل على أن الخلق غير المخلوق. وهو الصحيح عند أصحابنا. ولا تفارق بين أن يقال: في السموات. وفي خلق السموات.
انتهى. وفيه تلخيص وتقدم وتأخير.
{تلك آيات الله}: أي تلك الآيات. وهي الدلائل المذكورة؛ {نتلوها}: أي نسردها عليك ملتبسة بالحق. ونتلوها في موضع الحال. أي متلوة.
قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه. وهذا بعلى شيخًا.
انتهى. وليس نحوه. لأن في وهذا حرف تنبيه.
وقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه. أي تنبه.
وأما تلك. فليس فيها حرف تنبيه عاملًا بما فيه من معنى التنبيه. لأن الحرف قد يعمل في الحال: تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه.
وقيل: العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى. أي انظر إليه في حال شيخه. فلا يكون اسم الإشارة عاملًا ولا حرف التنبيه. إن كان هناك.
وقال ابن عطية: {نتلوها} فيه حذف مضاف. أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها.
ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذه المعاني. فلا يكون في نتلوها حذف مضاف. انتهى.
ونتلوها معناه: يأمر الملك أن نتلوها.
وقرئ: {يتلوها}. بياء الغيبة. عائدًا على الله؛ و{بالحق}: بالصدق. لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية.
{فبأي حديث} الآية. فيه تقريع وتوبيخ وتهديد؛ {بعد الله}: أي بعد حديث الله. وهو كتابه وكلامه. كقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا} وقال: {فبأي حديث بعده يؤمنون} أي بعد حديث الله وكلامه.